خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 17 من المحرم 1445هـ - الموافق 4 / 8 / 2023م
] وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[
الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الطَّوْلِ وَالْإِنْعَامِ، الْمُحْسِنِ بِفَضْلِهِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ وَالْأَنَامِ، الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَحَلَّ الْحَلَالَ وَحَرَّمَ الْحَرَامَ، وَنَهَى أَنْ يُبَذَّرَ الْمَالُ تَبْذِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ، وَأَفْضَلُ رُسُلِهِ الْكِرَامِ، أَرْسَلَهُ رَبُّهُ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ اقْتَصَدُوا فِي عَيْشِهِمْ فَلَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يُقَتِّرُوا تَقْتِيرًا، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى الْعَزِيزِ الْغَفُورِ؛ فَإِنَّ فِي تَقْوَى اللهِ نَجَاةً وَتِجَارَةً لَنْ تَبُورَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى:) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ([ الزمر:61].
إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ:
إِنَّ مِنْ عَظِيمِ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا أَنْ شَرَعَ لَنَا دِينًا قَيِّمًا وَمِنْهَاجًا، وَجَعَلَنَا فِي الْأُمَمِ أُمَّةً وَسَطًا؛ فَزَادَ الشَّرِيعَةَ رَحْمَةً وَحِكْمَةً، وَالنُّفُوسَ قَبُولًا وَابْتِهَاجًا. وَإنَّ مِنْ مَظَاهِرِ هَذِهِ الْوَسَطِيَّةِ: الِاعْتِدَالَ فِي الْإِنْفَاقِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَقَدْ أَثْنَى رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَوْلِيَائِهِ مِنْ عِبَادِهِ وَأَصْفِيَائِهِ مِنْ خَلْقِهِ؛ فَجَعَلَ الْعَدْلَ وَالْوَسَطَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْمُلَازِمَةِ لَهُمْ؛ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا( [الفرقان:67]، وَذَمَّ رَبُّنَا - عَزَّ وَجَلَّ- الْإِسْرَافَ وَالتَّبْذِيرَ وَجَعَلَهُمَا مِنْ صِفَاتِ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ؛ تَحْذِيرًا مِنْهُ وَتَنْفِيرًا؛ فَقَالَ تَعَالَى: ) وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ( [الإسراء:26 ـ 27]، وَأَخْبَرَ جَلَّ جَلَالُهُ: أَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَهْلَ التَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ، الَّذِينَ يَتَجَاوَزُونَ الْحُدُودَ وَيَتَجَشَّمُونَ الْكُلَفَ، فَقَالَ: ) يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( [الأعراف:31]. وَدِينُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَطٌ بَيْنَ السَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ، وَالْبُخْلِ وَالتَّقْتِيرِ؛ قَالَ جَلَّ وَعَلَا:) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا( [الإسراء:29].
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ الْإِسْرَافَ دَاءٌ قَتَّالٌ، وَمَرَضٌ عُضَالٌ، يَهْدِمُ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَمِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَيُبَعْثِرُ الْأَمْوَالَ وَيُبَدِّدُ الثَّرَوَاتِ، ثُمَّ يَكُونُ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي الْمَهَالِكِ، وَكَثِيرًا مَا تُصَابُ النُّفُوسُ عِنْدَ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَالْغِنَى بِالطُّغْيَانِ وَالْإِسْرَافِ وَسُوءِ الْمَسَالِكِ، وَهُوَ تَوْجِيهٌ غَيْرُ سَوِيٍّ لِنِعْمَةِ الْمَالِ الَّتِي اسْتَوْدَعَهَا اللهُ الْإِنْسَانَ وَاسْتَخْلَفَهُ فِيهَا، وَاسْتِرْسَالٌ فِي الْمُتَعِ وَاللَّذَّاتِ، وَاسْتِغْرَاقٌ فِي الِانْحِدَارِ وَالشَّهَوَاتِ.
وَإِنَّ لِلْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ أَسْبَابًا تَدْعُو إِلَيْهِمَا، وَدَوَافِعَ تَبْعَثُ عَلَيْهِمَا، وَمِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ: جَهْلُ الْمُسْرِفِينَ بِأَحْكَامِ الدِّينِ الَّذِي يَنْهَى عَنِ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ، أَوْ تَجَاهُلُ مَنْ لَا يَجْهَلُ أَحْكَامَ الْإِسْرَافِ وَتَغَاضِيهِ عَنْ ذَلِكَ؛ اتِّبَاعًا لِرَغْبَةٍ فِي نَفْسِهِ؛ مِنْ حُبٍّ لِلْمُبَاهَاةِ وَالتَّفَاخُرِ، وَرَغْبَةٍ فِي التَّسَابُقِ وَالتَّكَاثُرِ فِي مَظَاهِرِ الدُّنْيَا وَمَفَاخِرِ الْعَيْشِ. وَمِنَ الْأَسْبَابِ: الْغَفْلَةُ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مَقَرٍّ، فَإِذَا غَفَلَ الْمَرْءُ عَنْ حَقِيقَتِهَا وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى مِنْهَا كَافِرًا شَرْبَةَ مَاءٍ، وَأَنَّ الْحَالَ قَدْ يَتَغَيَّرُ مِنَ الْغِنَى إِلَى الْفَقْرِ، ومِنَ الْفَقْرِ إِلَى الْغِنَى مَا بَيْنَ غَمْضَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا، فَإِذَا غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَبَدَّدَ أَمْوَالَهُ، فَالْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَيْدَانٌ لِلتَّسَابُقِ فِي الصَّالِحَاتِ لَا فِي الشَّهَوَاتِ، وَفِي الْمُسَارَعَةِ إِلَى أَسْبَابِ الرِّضْوَانِ، لَا إِلَى أَسْبَابِ السُّخْطِ وَالطُّغْيَانِ. وَمِنْهَا: مُصَاحَبَةُ الْمُسْرِفِينَ؛ لِأَنَّ الصَّاحِبَ يَتَأَثَّرُ بِأَخْلَاقِ صَاحِبِهِ، وَيَتَطَبَّعُ بِطِبَاعِهِ، وَالصَّاحِبُ كَمَا قِيلَ: سَاحِبٌ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» [أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَمِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ: التَّقْلِيدُ وَاتِّبَاعُ الْعَادَاتِ، فَإِذَا نَشَأَ الْإِنْسَانُ فِي بِيئَةٍ تَعَوَّدَتِ السَّرَفَ وَالتَّبْذِيرَ حَاكَاهُمْ وَقَلَّدَهُمْ، وَحَاوَلَ مُسَايَرَتَهُمْ فِي حَيَاةِ الْبَذَخِ وَالْإِسْرَافِ، حَتَّى أُصِيبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بسُعَارِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى وَالْمَظَاهِرِ الْمُثِيرَةِ، وَالتَّبَعِيَّةِ الْجَوْفَاءِ بِلَا تَمْحِيصٍ وَلَا بَصِيرَةٍ. وَمِنْهَا أَيْضًا: قِلَّةُ النَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ السَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ، وَقِلَّةُ الِاكْتِرَاثِ بِأَثَرِهَا الْكَبِيرِ وَشَرِّهَا الْمُسْتَطِيرِ؛ فَلَوْ تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ تِلْكَ الْعَوَاقِبَ، وَوَضَعَهَا فِي عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ لَمَا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ مَظَاهِرِ السَّرَفِ وَتَبْدِيدِ الثَّرْوَةِ؛ الَّتِي طَغَتْ حَتَّى أَصْبَحَتْ جُزْءًا مِنْ حَيَاةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.
مَعْشَرَ الْأَحِبَّةِ:
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِسْرَافَ وَالتَّبْذِيرَ قَدْ تَعَدَّدَتْ مَظَاهِرُهُمَا، وَتَنَوَّعَتْ أَشْكَالُهُمَا؛ حَتَّى كَادَا أَنْ يَعُمَّا الْمُجْتَمَعَاتِ وَالْأَفْرَادَ، وَيُفْسِدَا حَيَاةَ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ. وَمِنْ وُجُوهِ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَمَظَاهِرِهِمَا الَّتِي عَمَّتْ: الْإِسْرَافُ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ خُصُوصًا فِي الْمُنَاسَبَاتِ؛ بِحَيْثُ تُوضَعُ أَطْعِمَةٌ كَثِيرَةٌ وَأَشْرِبَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ ثُمَّ يَنْفَضُّ النَّاسُ عَنْ أَكْثَرِهَا تَارِكِينَ سَبِيلَهَا إِلَى حَاوِيَاتِ النُّفَايَاتِ، وَأُمَمٌ كَثِيرَةٌ يَمُوتُونَ جُوعًا لَا يَجِدُونَ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُمْ أَوْ يَدْفَعُ جُوعَهُمْ، ومِنَ ذَلِكَ أَيْضًا: مَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَعْرَاسِ وَالْحَفَلَاتِ، حَيْثُ يَظْهَرُ السَّرَفُ وَالْبَذَخُ فِيهَا إِلَى حَدِّ التَّبَاهِي وَالتَّفَاخُرِ؛ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالتَّكَاثُرِ، وَفِي هَذَا كَسْرٌ لِنُفُوسِ الْفُقَرَاءِ مِنَ النَّاسِ وَاسْتِهَانَةٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَنَتَائِجِهَا، وَفِي الْمَثَلِ: (مَنِ اشْتَرَى مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بَاعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إنِّي لَأُبْغِضُ أَهْلَ بَيْتٍ يُنْفِقُونَ رِزْقَ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ). وَ قَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ حِفَاظًا عَلَى الْمَالِ مِنَ التَّبْذِيرِ، وَخَوْفًا عَلَى جِسْمِ الْإِنْسَانِ مِنَ التُّخَمَةِ، وَعَلَى صِحَّتِهِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَسُوءِ الْمَصِيرِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى:)وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( [الأعراف: 31]، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللهُ: (جَمَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الطِّبَّ كُلَّهُ فِي نِصْفِ هَذِهِ الآيَةِ).
وَلَمَّا كَانَ الْإِفْرَاطُ فِي الطَّعَامِ ضَارًّا بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ وَمَالِهِ وَصِحَّتِهِ فَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ r إِذْ رَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ]، وَبَالَغَ أُنَاسٌ فِي الْمَرَاكِبِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَلَابِسِ وَتَسَابَقُوا فِيهَا، وَرُبَّمَا كَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَتَحَمَّلُوا مِنَ الدُّيُونِ مَا لَا يَسْتَطِيعُونَ؛ حَتَّى أَرْهَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَشَغَلُوا ذِمَمَهُمْ بِمَا لَا يَحْتَمِلُونَ.
إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ - يَا عِبَادَ اللهِ- يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَيُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُ إِضَاعَةَ الْمَالِ، وَالسَّرَفَ وَالْمَخِيلَةَ فِي الْإِنْفَاقِ، وَوَضْعَ النِّعْمَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، أَلَمْ يَقْلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ»؟ [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ مُعِزُّ أَهْلِ طَاعَتِهِ، وَمُذِلُّ أَهْلِ عِصْيَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَإِخْوَانِهِ؛ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى سَبِيلِ اللهِ وَجِنَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ، وَاحْذَرُوا مَوَاقِعَ سَخَطِهِ وَمَوَاضِعَ مَعْصِيَـتِهِ.
إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ:
وَمِنَ الْإِسْرَافِ الْمَذْمُومِ: الْإِسْرَافُ فِي الْمَرَافِقِ العَامَّةِ وَالْمَنَافِعِ الْحَيَوِيَّةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهَا الْحَيَاةُ الْيَوْمِيَّةُ فِي هَذَا الزَّمَنِ؛ كَالْمَاءِ وَالْكَهْرَبَاءِ، فَكَمْ تُهْدَرُ مِنْ مِيَاهٍ بِلَا دَاعٍ وَلَا حَاجَةٍ!! وَكَمْ تُضَيَّعُ مِنْ طَاقَاتٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ بِلَا مُوجِبٍ وَلَا مُسَوِّغٍ!! وَكَمْ مِنْ مَصَابِيحَ لَا تُطْفَأُ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ!! وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَافِ الْمَمْقُوتِ وَالتَّبْذِيرِ الْمُسْتَقْبَحِ، أَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ » إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»؟ [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ].
أَلَمْ يَنْهَنَا دِينُنَا الْحَنِيفُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الصَّدَقَةِ، وَعَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْوُضُوءِ؛ وَهُمَا مِنَ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْإِسْرَافُ فِي غَيْرِهِمَا؟!! عَنِ ابْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ « [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ]. وَلَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَغْتَسِلُ وَيَتَوَضَّأُ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْمَاءِ؛ فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ r يَتَوَضَّأُ بالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ» يَعْنِي: خَمْسَ حَفَنَاتٍ [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
فاتَّقُوا اللهَ، وَحَافِظُوا عَلَى النِّعْمَةِ مِنَ الزَّوَالِ، وَاعْمَلُوا فِيهَا بِالْحَلَالِ؛ تُؤْجَرُوا وَتُرْزَقُوا وَيُبَارَكْ لَكُمْ فِيهَا، وَإِيَّاكُمْ وَالإِسْرَافَ وَالتَّبْذِيرَ، وَاحْذَرُوا الْإِمْسَاكَ وَالتَّقْتِيرَ، فَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِشَرْعِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الْأَطْهَارِ وَصَحْبِهِ الْأَبْرَارِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَلْهِمْنَا شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَدَوَامَ عَافِيَتِكَ، وَجَنِّبْنَا فُجَاءَةَ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعَ سَخَطِكَ، وَبَارِكِ اللَّهُمَّ لَنَا فِي أَوْقَاتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَأَوْلَادِنَا وَأَزْوَاجِنَا، وَاغْفِرِ اللَّهُمَّ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُمَا فِي رِضَاكَ، وَأَلْبِسْهُمَا ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَالْإِيمَانِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة